Sunday, December 5

ما قاله أبي عن الشجرة والكناري والسعال


لسبب أو من دون سبب، ولأسباب كثيرة أحقد علي المارة الذين لا أعرف أحد منهم وأجهل ما صنعوا بي ومايصنعون في الأيام الآتية ، وعلي البائع الجوال الذي يبدد خيبة أعوامه الستين بين الحواري، وعلي الكلب التائه لأنه أسود ولأنه الكلب الذي تظلله شجرة منفردة،وعلي الشجرة إذ تبدل ظلالها رخيصة علي الأسفلت والحفر ومسارب المجاري.

ولأسباب أخري أحقد علي النافذة وأجدني واقفاً خلف النافذة لا أزال.

أعرف جيدا أنه ليس مؤلما علي الإطلاق أن تقف خلف النافذة كما يفعل من ينتظر شيئا، أحدا ما، أو من يدفعه الفضول إلي الإطمئنان مرة ثم أخري إلي أن الأشياء في الخارج مازالت هناك وأنه لم يمُت بعد لكي يفقدها. ليس مؤلما أن تقف هكذا وتعلم جيدا أنك لاتنتظر ولست فضوليا، ولست ممن يفتنه مشرق الأنوار أو عليل الهواء، تقف هناك لأنه ينبغي أن تفعل شيئا، أن تفعل ما لا تتعمده أو تقصده أو ترغب فيه ذلك أنك لسبب أو دون سبب، لا تشعر بالخيبة أو الحزن أو الألم، ولا تريد أن تكون هذه المشاعر التافهة من بين المشاغل التي تفسد عليك نومك ويقظتك فلديك من الأسباب مايجعلك واقفا هناك، مهملًا، شيئا بين أشياء تُرفع بعد وقت في صناديق محكمة الإغلاق إلي رطوبة المخازن أو الأقبية أو الزوايا المهملة من الأبواب الخلفية وتُترك للنسيان.

ليس مؤلما أن تقف هناك، لاتعرف ماذا تفعل بيديك وإلي أي إتجاه تنظر وفي أي نقطة تحدق. حتي التنفس، أقصد مشقة التنفس ، ليست بمقدار ما رواه أبي، كان أبي علي مشارف السبعين وقد إهترأت رئتاه من الرطوبة والوحشة والتدخين والخدمة العسكرية ومن التجوال منفردا بين الغرف، كان أبي يقول وقد إهترأت رئتاه لسبب أو لدون سبب، أنه لايتألم إلا حين يتنفس، لم يقل أن في الأمر ما يدعو إلي التوقف عن التنفس، إذ دائما يحين الوقت الذي تعتاد فيه علي التألم، حتي إن زال الألم أوجعك غيابه، ولم يقل أنه أعتاد الألم بل قال شيئا عن وحشة الأماكن الشاغرة، الخزان الكبيرة خالية إلا من قبعة الأستراخان، المشجب إذ يعلوه الغبار، السرير الذي رفعت عنه الشراشف والأغطية وبقي الفراش عاريا وحيدا، الكنبات في ردهة الجلوس متقابلة كشقيقات مُسنّات، السروة بمحاذاة الشرفة يخليها الهواء، الحصاة وسط الشارع، الغرف التي غادرها الزائرون، أعقاب السكائر، والرائحة التي تمكث خفيفة في الأرجاء. وقال شيئا عن الوردة التي تشبه الفتاة وعن الفتاة التي أصبحت بعيدة وقال شيئا عن المكان البعيد الذي يناديه و يراه في النوم ثم يراه في اليقظة وقال أنه في عينيه.وعن أشياء أخري لم يقل انها في عينيه لكنها كانت هناك.

أعرف جيدا، ليس مؤلما إن أردت أن تكون هناك وما استطعت، فقط تقف شيئا بين أشياء تُرفع بعد وقت وحفظ من النسيان. وأذكر أنه لم يقل شيئا عن النسيان. فقط يجلس قبالة أحدنا ويحدق في وجهه، يحدق في عينيه، كأنه يود أن يمكث هنيهة في العين التي رأته. وإذا مر به أحد أمسك بطرف كمّه. بطرف سترته حتي إذا إلتفت نحوه لم يقل شيئا بل نظر إليه. كان أبي الذي إهترأت رئتاه من الحرقة والتدخين والتجوال بين الغرف منفردا، يعرف أن النسيان حال من يقيم علي الحافة معلقا في الفراغ.إذا سار أتكأ إلي الجدار وإذا وقف إستند كفه إلي مايكشح الفراغ من أمامه.

ليس مؤلما قال، ولم يبك، لم يطلق زفرة واحدة. كان المكان البعيد في عينيه وقال إن الأمر ليس مؤلما، وكان لايقوي علي النوم ويخافه إذا لايعثر في النوم علي يد يمسكها أو طرف ثوب يتشبث به، ولسبب أو دون سبب،ولأسباب كثيرة كان يحب المارة الذين لا يعرف أحدا منهم أو يجهل ماصنعوا به وما يصنعون في الأيام الآتية، وكان يحب البائع المتجول والكلب الأسود الذي تظلله شجرة منفردة، ويحب الشجرة إذا تبذل ظلالها رخيصة علي الأسفلت والحفر ومسارب المجاري.
ولأسباب أخري كان يحب النافذة وما عاد الآن واقفا خلف النافذة.

كان يعلم أن الأمر ليس مؤلما إن وددت أن تكون هناك، ويجب أن تراه عين من أحب وان يمكث هنيهة في العين التي تراه.
ولا اعرف إذا كان ابي قد أحب الموت. ولا أذكر أنه قال شيئا عنه، قال أشياء أذكرها عن الشجرة والكناري والغرف والسعال.
وقال وددت أن أكون السروة هناك


بسّام حجّار

2 comments:

Zianour said...

المقطع ده
ضربني في مقتل
...

m.sobhy1990@gmail.com said...

أنا باعشق القصيدة دي

فادحة الجمال