Friday, April 6

حكاية الرجل الذي صار ظلّاً


ما كنت منذ البداية هكذا. أقصد لم يخلقني الله هكذا، وحيداً ومتروكاً للحيرة اذ لا أجد من يصحبني وأكون ظله. ولكن ليتني أذكر بالدقة التي تتوخون كيف جرى لي ذلك فأصبحت ما أنا عليه الآن، أو منذ بعض الوقت.
أجدني لا اقوى على الحركة، مقيماً سوية البلاط لا ابرح. وما يدور علي من مواقيت يبدل من أحوالي وهيئتي، فلي مع تبدلات الاضاءة بين مواقيت النهار والليل قصص أعجب من ان تروى هنا، ولا يتسع لها مصنف كامل من ترّهات بورخيس. فالصباح يجعلني منبسطاً على سوية الأرضية الملمعة، والظهيرة تلصقني بالأشياء العمودية الواقفة ولا تتعب، ثم تتدرج بي الحال الى استطالة تشوه قوامي الطيفي حتى يكسرني الغروب بانعكاسه الشفقي الى نصفين. نصف من أسفل الركبة الى القدمين والنصف الآخر من أسفل الركبة أيضاً الى هامتي، فأقف بانحراف ظاهر على جدار ولا شيء يسندني، الى ان يحل الظلام فيذيبني في كنفه كأنّني قطرات حبر أو ماء ملون تمتصه ممحاة غريبة لا قوام لها. بلى، ما أخطأتم الحسبان، فما أتحدث اليكم عنه هو الظل الذي صرته منذ بعض الوقت، لذلك يصعب ان يبصرني احدكم في الليل أو في عتمة المكان. كأنني أنتمي اليه أو أصبحت ملكاً له مذ غادرني صاحبي وانتظرته طويلاً هنا ولم يعد. فقط بوسع واحدكم ان يراني في الضوء. في ضوء فاضح لا أرى منه شيئاً. وطبعاً لن اشرح لكم هنا ما تعرفونه جيداً بأن الظل لا يراكم حين ترونه جيداً لكنه يلازم حركاتكم وسكناتكم ولا يغادركم الا حين تلوذون بأسرتكم الدافئة وتحلمون. ألمعيّ هناك يقول: وماذا عن السير في الظلمة حيث لا ظل يتبعنا؟ فأقول من فم الظلال إياها اذا جاز لي ان اقول: يكون من هو مثلي فدية نجاتكم من العبور الى الجهة الأخرى. ليتخيل احدكم الظلام مرآة، ولو معتمة، يسير بمحاذاتها على وجه الدقة، ويصحبه الظل، ظله، في الجهة الأخرى من المرآة حيث يسود الظلام، ولن يخطر ببال أحدكم الأهوال التي يصادفها من هو مثلي هناك. ولكن لندع هذا الأمر جانباً، فليس في نيتي أن أشكو أو أن أجعل من ذاتي المعدومة رمزاً لبطولة الخوض في عالم الظلمات والا لأدركني المساء قبل أن اروي على مسامعكم ما صرت اليه منذ بعض الوقت.
ذات يوم الفيتني وحيداً. كان الوقت مساء والظلمة حالكة فلا يبصر صاحبي اصبعه حتى لو الصقها بعينه الحاذقة. كان مستلقياً على الكنبة في ثيابه المعتادة وكان يجهش في البكاء. يشرب كأساً تلو الأخرى، ويشعل سيكارة تلو الأخرى، ويجهش في البكاء. وكانت الظلمة قد أذابتني في كنفها وامتصتني لكنني، في هيئتي السائلة، كنت أقعي عند قدميه لا أغادر. أشبه صاحبي في كل شيء، اقصد في ما عدا التشوه الذي يسببه لي تبدل الضوء فيقزمني أو يمطني لكي أبدو دميماً، أشبه صاحبي إذاً في كل شيء ولكنني ما سلكت نعمة البكاء أو عرفتها من قبل. وعلى الرغم من وفائي لصاحبي ما تمكنت يوماً من مجاراته او ابداء التعاطف بدمعة أذرفها حتى ظننت يوماً انني من الغلظة والفظاظة ما يفوق الوصف. كان صاحبي يجهش في البكاء. ثم غادرني. سمعت دوياً أو ربما جلبة ارتطام هائلة، لست أدري. وفي اليوم التالي وجدتني هنا وحدي. وفي اليوم الثالث ايضاً. وفي الأيام التي اعقبت ذلك الى اليوم، بت وحيداً لا قدرة لي على الحراك من مكاني. زوجة صاحبي وابنته لا تعيران انتباهاً الى الدكنة الطفيفة التي تبقع البلاط وموضعاً واطئاً من الجدار. وذات يوم، جاءت الزوجة بالممسحة وعدة التنظيف وحاولت ان تمسحني بكل ما أوتيت من قوة وعصبية ولم يمح من هيئتي شيء. فحسبت انني مجرد بقعة من الرطوبة تسربت من اسفل الحائط الى البلاط. وكفت عن المحاولة. وأصبحت تحاذر اذا مرت بقربي ان يداني ظلها ظلي خوفاً من بلل الرطوبة وشؤمها وكم وددت ان يألفني ظلها فاصبح ظلاً له علني اجد من اتبعه في روحاته وغدواته. حتى الابنة لم تتعرف الي وكنت دائماً في صحبة ظلها حين يرافقها صاحبي في نزهة قصيرة في الجوار. ليس بوسعي ان اكون شبيهاً به لأن لا مظهر ولا هيئة لي. كان وسيماً، مستقيم القامة الى نحول، عصبي المزاج والحركة. وكنت أحاكي حركاته وسكناته ثم غادرني ولا أعلم اذا كان يصحبه ظل آخر هناك. وأصبحت هنا بلا نفع أو قيمة حتى وددت لو تمر بي سلحفاة فأكون ظلها، لو يمر بي كلب فأكون ظله، او حصاة فأكون ظلها. ذلك اني بت اخاف ان تمتصني الظلمة مرة واحدة والى الابد. ماذا افعل بالضوء الذي يطلع كل صباح ان لم ينهض صاحبي من نومه، بجسمه كاملاً. الرأس والذراعان والجذع والساقان، لكي اتبعه فتدوسني اقدام السابلة ولا ينال مني ألم، بل أواصل زحفي الخفيف بين الحصى والنقح والعجلات والنفيات، لا تعيقني أو تلوثني، خفيفاً وقانعاً لا أعرف لسعادة الصحبة مثيلاً.
ماذا افعل الآن اذ غادرني وانتظرت طويلاً وما عاد بعد؟ كيف أقضي ملاوة الدهر، فلا عمر لي، في الركن وحيداً؟ ما الذي يبقيني على قيد الحياة؟ أسفٌ، لا بد انكم أدركتم خطأ العبارة. اقصد ما الذي يبقيني، على ان تكون الحياة لكم ولسواكم ولمن يرغب ايضا. لا تزيلني احماض ولا يحطمني ثقل ولا يطمرني تراب. رحماك أيها الضجر!

بسّام حجّار
مجرّد تعب

No comments: